بعد أن أسندت رأسي على كتفي العتمة، و وثقت بها و سمحت لها بإحاطتي، أرسلت جيوشها التي حاكتهم من خيوط الخذلان كي يهاجموني و يقطعوا أنفاسي. و لكن فجأة، بدأ القمر ينير من بعيد، بعد أن غاب نوره لفترة طويلة، حتى أحاط نوره رجلًا يجلس على صخرة، ثم وصلتني كلماته الواحدة تلو الأخرى، قال:
"أنا أعرف هذه الأرض جيدًا، ولدت عليها، و مشيت و ركضت أيضًا. أعرف ظلال أشجارها المختلفة. أعرف الصخور التي تملأ سطحها. أعرف رائحتها إذا هطل المطر عليها. أعرف ملمسها أذا نما العشب عليها. و أعرف جيدًا من سلبوها مني و من أهلها، هكذا في يومٍ و ليلة! دافعت عنها مع أبنائها طويلًاك بالأسلحة، و عندما نفدت، دافعنا عنها بالحجارة، و عندما نفدت، حاربنا ضد سارقيها بالجوع و العرق خلف قضبانهم القذرة المليئة بالمظلومين.
سرقوها، و لأن أحدًا لم يقم و يتذكر كيف كانت هذه الأرض يومًا ملجأً له أو ظلًاك قام أبناؤها على اختلافهم مسبقًا مع بعضهم البعض يضربون قهرًا، يبكون دمًا، يكتبون ألمًا. و أتى من بعيد..."
لم يكملك وقف قليلًا. سمعت صوت بكاٍ صامت، كان يبكي بألمٍك كان يبكي من داخله. كان قلبه هو الذي يبكي. و بدأت العتمة تفك قيودها عني و عن كل شيء لم يستطع مقاومتها، خوفًا مما قاله ذلك الرجل التعيس الشجاع. و لكن، أتى من بعيد؟ ركضت، و كلما ظننت أنني اقتربت منه و من الصخرة التي يجلس عليها ابتعدا عني. لم أقف إلا قليلًا لأسمح بالهواء بالدخوال إلى جوفي، أردت أن أعرف هؤلاء الذي أتوا من بعيد متأخرين، بعد أن فات الأوان و سلبت أرضهم.
وصلت، أخيرًا. كان رجلًا كبيرًا بالسن، أو بالأصح زاده الهم سنًّا. خجلت من من حزني أمام هذا الرجل، ترددت في سؤالي، و لكن بالنهاية سألته: من هو الذي أتى من بعيد؟
أجابني دون أن يخجل من الدموع التي لم تجف بعد على خديه:" أتوا من بعيد ناس أنت منهم، أثرنا نحن بجوعنا و فقرنا و خسارة أبنائنا و آبائنا شفقتهم. يذرفون دمعةً أو دمعتين، و حتى إن كثر بكاءهم لن يعيشوا أبدًا ما عانيناه، أو ما زلنا نعانيه".
بعدها نظرت إلى نفسي، إلى جسدي، إلى الأرض التي لا أعرف عنها إلا القليل.
بدأت بالمقرنة بين حالي و حالهم تلقائيًا؛ أذهب إلى لمدرسة كل صباح. آكل و أشرب ما لذ و طاب. أحصل على ما أشاء وقت ما أشاء. أبي و أمي لا يعانيان. إخوتي سليمون، و لم أفقد أحدًا منهم. كم يبدو حزني و خساراتي تافهة و هشة بلا أي سبب أمام ألمهم العميق.
يا لحزني، و يا لتفاهة أسبابه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق