السبت، 31 ديسمبر 2016

كمطرقة

تسرب صوت الأذان إليه، فتح عينيه بسرعةٍ واتسعت قزحيته محاولة رؤية ما يواريه ظلام غرفته الضيقة. ما إن قام حتى بدأ الصداع ينخر داخل رأسه. لطالما شعر بأن الصداع مخلوق مجهول الهوية يُخلق داخل جمجمته أثناء نومه، وينمو ويريد التحرر بأي طريقة من داخل رأسه ما إن يستيقظ، ولكن خبرته فيه كانت كفيلة بمعرفة أنه أضعف من أن يتحرر، وأقوى من أن يستسلم. اتجه نحو المغسلة ببطء، تأمل وجهه الذي انعكس على المرآة وملامحه التي تجلَّت بعد تشغيله للمصباح. حاول تجاهله سريعًا وانشغل بالوضوء، ولكن بعد أن مسح على رأسه لم تفلح محاولته بتجاهل وجهه. ”يا ترى، كم لبثت من عمري هنا؟“ تسرب السؤال من شفتيه دون حسبان. كان السؤال يراوده معظم الوقت، ولكنه يشغل نفسه بوضع طوبة على طوبة أخرى لأناس لا يعرفهم. مضى بخطوات متسارعة كالهارب، والتقط بنطاله الملطخ ببقع الدهان والإسمنت من فوق الأريكة المهترئة، ومعطفه الذي اشتراه قبل وصوله إلى هنا. خرج متجهًا للمسجد، وكان للرياح الباردة دورًا في تحريك تنشيط وتحريك جسيمات الأفكار التي تخيفه، الأفكار التي لا يستطيع مواجهتها. 
”اهرب. اترك كل شيء، واهرب. عد إليهم.“ كان ساحة المعركة التي تحارب عليها رغبته في البقاء، وكسب ما يطعم ثلاثة أفواه تبعد آلاف الأميال عنه، وبين الأسئلة الأبدية ”لكن إلى متى؟“ و ”ما ذنبك أنت؟“. بالصلاة حاول أن يدفنها ويعيدها إلى المكان الذي جاءت منه. 
خرج ثم وقف أمام مطعم وضيع لبيع شطائر البيض المقلي والشاي وبائع ينهش رأسه كل دقيقة. اجتمع حوله بقية العمال الذي سيشاركونه العمل على البناية اليوم. حملوا الأكياس وأكواب الشاي الورقية ثم جلسوا أمام باب أحد المحلات المقفلة. بدأت أشعة الشمس تنير الظلمة بكسل. 
 كان الرخام باردًا جدًا، وتتطابق فكَّاه حتى سمع صوتهما، ولا مصدر للدفء غير البخار الصادر من كوب الشاي الذي حمله بالقرب من وجهه. كانت أصواتهم، وأصوات الشارع الذي بدأ رواده يخرجون من جميع المباني بعيدة عنه. كانت الأسئلة تتكرر عليه ”إلى متى؟ إلى متى؟” أراد أن يشارك تعاسته وكرهه لعمله وحاجته مع من حوله، وأراد أكثر من مرة أن يزرع تلك الأفكار برفاقه، عسى أن يقرروا الإقدام معه على ما يؤرقه. فجأة غلبت تلك الأفكار أفكارٌ أخرى، بدأت تنهال نفسه عليه بالأسئلة ”بماذا تفرق عن غيرك؟ ألا ترى العشرات غيرك ينتظرون أن يقلهم أحد من أمام المحلات؟ والمئات والمئات في كل مكان؟“ أخرجه من دوامة الأفكار رفيقه قائلًا: متى سيأتي السائق الملعون؟ كل مرة يقول سأكون بانتظاركم قبل الشروق، وتأتي الشمس وهو لم يأت بعد. 
رأى السيارة تقترب، وما زالت الرغبة في ترك كل شيء وراءه والعودة تراوده، لكن فجأة وصلته رسالة نصية على هاتفه النقال المتهالك، كانت من أخته مريم. وصلت السيارة وبدأ رفاقه الثلاثة بحمل أغراضهم ووضعها مكان الأمتعة، وبدأ رفيقه يتذمر للسائق عن تأخيره. ظل جالسًا يقرأ الرسالة، كانت تقول ”سلام عمر، أمك بحاجة إلى دوائها ونفد ما أرسلته الشهر الماضي مبكرًا.“ 
ناداه السائق، وظل يردد ”من أجلهم. من أجلهم.“ حتى ركب السيارة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق