تدرَّب
على مئات الطرق للمقاومة، وفشل فيها جميعًا. يهمس لحوائط الزنزانة بالشعارات
الرنانة التي تغذى عليها لدرجة إدمانها؛ شعارات الحرية والكرامة والعدل والمساواة
التي حُرِّم عليه الهتاف بها في العلن. يتذكر النشوة التي تغزو جسده عندما كان
يكررها لنفسه لوحده في غرفته، لكن الواقع في هذه البقعة الجغرافية البائسة أخرسه
حتى بالتفكير بها. يعرف تفاصيل هذه الأرض جيدًا. يرسم تضاريسها بإصبعه بالهواء،
يحاول أن يستنشق عبقها الذي يميزه، لكنه لا يجد إلا العفن. عفن الفكر. عفن المكان.
عفن جسده الملقى في هذا المكان منذ...لا يتذكَّر، عدة خطوطٍ محفورة بالحائط، شروق
شمسٍ وغروبها دون وصول أشعتها إلى جلده، وعدة مواسم لربيع يائس.
"إلهي،
ما الذي أتى بي هنا؟" يحب تكرار هذا السؤال كثيرًا؛ لأنه السؤال الوحيد الذي
يعرف إجابته من الأسئلة العديدة التي تنخر في جمجمته متجهة إلى دماغه بحثًا عن الأجوبة.
"إنه رأي. نعم، رأي. رأي ضدهم، أو معهم؟ لمنفعتهم أو لمضرتهم؟ لا أعرف، ولكنه
رأي." كان يعرف عند بداية إعلان آرائه المضادة أنه سيدفع الثمن غاليًا، لكن
النضال الذي لطالما حلم به جعله أشجع من التهديدات أو النصائح التي كانت تكررها
أمه وهي ترتجف.
كان
رأيًا واحدًا كفيلًا بإطاحته هنا، رأيًا واحدًا كفيلًا بأن تحفظ الجدران أدعيته
وصلواته.
"إلهي..."
يهمس مجددًا للعدم المحيط به باغيًا ما وراء المادة، "إلهي، إن الفكرة كما
قالوا لا تموت. الفكرة خالدة، نرثها واحدًا تلو الاخر. لكن الفكرة تُميت. إنها
تقتلني ببطء. من كان ليظن أن وعيي قد يقتلني يومًا؟ من كان ليظن أن عبارات مكتوبة
أو مُقالة مؤرقة، مخيفة، مزعزعة لنظام ما؟ إلهي، أنت وحدك من أتحدث إليه. إنني
أندم على أكثر شيء آمنت به بعدك، وهو أن أقف بجانب الحق وألا أدع سبيلًا لأي ظالم.
إلهي، إنني منهك. إن الشك والندم يفتكان بي. إنني مجرد جثة عاجزة الآن تحلم
بالسراح والانطلاق ولو حبوًا، لا تريد أجنحة ولا تتمنى تعلم منطق الطير. إلهي، أكاد
أقسم أن الهواء أصبح معدومًا. أين هواء الحرية التي حلمت بها يومًا؟ الحرية
الكاملة التامة دون شروط وضعها آباؤنا الأولون؟ إلهي، هذه الروح حرة، تقبلها. لكن
هذا الجسد الذي وضعت عليه جميع لعنات هذا الوطن الذي لم أعد أعرفه لم يعد ملكًا
لي، أصبح آلة لهم. إني يائس يا إلهي؛ فأحيني بفكري ولا تجعله سببًا في
هلاكي."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق